ليس في جميع آثار الأدباء تصوير فني، لأن التصوير الفني نوع خاص من الكتابة
الأدبية، له أصوله الفنية وطرائقه التي يسير عليها، فما كل من عبر تعبيرا أدبيا عن
معنى من المعاني العاطفية يكون صاحب تصوير فني، ولا كل من نمق كلاما جميلا يعد صاحب
تصوير فني. فقد يؤلف الأديب كلاما أدبيا أجمع للجمال الفني وأفعل في نفوس القراء،
وهو مع ذلك خلو من التصوير الفني. فهذا التصوير إذن ضرب خاص من الصناعة الأدبية له
طريقته الخاصة في نقل صور الحياة الظاهرة والباطنة وإخراجها في إطار أدبي جميل طلى.
فما هو إذن هذا التصوير؟.
نستطيع أن نقول أن التصوير الفني هو إعطاء العمل
الأدبي شكل "صورة" تظهر فيها خصائص التصوير وأركانه الفنية. غير أن هذا التعريف
غامض ينقصه الوضوح الذي يجعلنا أقرب إلى الحقيقة، فالأليق بنا إذن أن نقول: إن
التصوير الفني هو أن يؤلف الأديب بين الأشكال والمعاني تأليفا فنيا يكون منها
"صورة" صورة تشترك في رسمها كل كلمة وكل عبارة يتضمنها الأسلوب، وأنت تستطيع أن
تفهم أن إخراج العمل الأدبي في شكل صورة براعة أخرى لا يقدر عليها كل الأدباء، كما
تستطيع أن تفهم أن هذا الإخراج صناعة خاصة لا توجد في سائر الأساليب الأدبية. فليس
يكفي تكوين صورة من الأسلوب أن يكون هذا الأسلوب حافلا بالخصائص الفنية التي تتعلق
باللفظ والمعنى والعبارة، بل لا بد من طريقة خاصة للتأليف بين تلك الخصائص حتى
تستطيع أن تكون ما نسميه "صورة". فمن الأدباء من يؤدي مشاعره الطبيعية في أسلوب
أدبي لا توجد فيه خواص الأشياء إلا موصوفة وصفا "مرسلا" نعنى أنها وقف بها الأداء
في حدود الوصف المطلق ولم يدخل بها طور التأليف الصوري الذي يجمع بعضها إلى بعض
ليكون منها شكلا صوريا له خصائص الصورية. وهذا الأديب يستطيع أن يطلعنا على الأوصاف
الخيالية والواقعية والعقلية لخواص الأشياء، ولكن ليقف بنا عند هذا الحد، لا يتعداه
إلى إطلاعنا على خواص الأشياء بصفتها "صورة" أما الأديب الذي يطلعنا على تلك الخواص
في شكل صورة فهو ذلك الذي يستطيع أن يركبها تركيبا فنيا ثم يكسوها اللحم ويصب فيها
الدم وينفخ فيها روح الحياة. فمن وظيفة هذا الأديب أن يصف الأشياء وصفا لا يسير إلى
غايته الفنية سيرا، ولكن يدور حولها دورانا ويلف لفا لينشئ مشهدا صوريا جميلا من
مشاهد الحس والخيال.
وللتصوير الفني طرق ووسائل يختلف الأدباء وفرسان البيان
في اتباعها واستعمالها في الوصف الفني، وكل طريقة ووسيلة تعطي التصوير الفني طابعا
خاصا وتكيفه تكييفا مستقلا. فهناك طريقة التخييل وطريقة التجسيم أو التشخيص، فلنبحث
كل طريقة على حدة:
- التخييل -
التخييل
طريقة من طرق التصوير الفني، وهي تتلخص في تكوين صورة فنية تدرك بالخيال لا بالحس
وتمثل للعاطفة لا للعين. والتخييل مجال واسع لإبراز الخواطر العالية التي هي أسمى
من أن تظهر بمظاهر محسوسة، والأدبــاء الإبداعيون هم أكثر الأدباء ميلا إلى هذا
الضرب من التصوير الفني، ذلك أنه يمكنهم من خلق صورة جديدة تلائم أمزجتهم وطبائعهم
من غير أن تتقيـــد بظاهرة من الظواهر الواقعية المحدودة، ولذلك كان التخييل محتاجا
إلى ملكة خيالية بعيدة المدى والقرار، سيما وأن عمل التخييل هو الخلق دائمـــا، لأن
وظيفته تصعد به فوق المحسوس ليوجد صورا أخرى هي أكبر وأغنى ممــا نعرف في دنيانا
المشاهدة. ولطريقة التخييل التصويرية مزايا توجه العمــل الأدبي وجهة خاصة وتضع له
قيما أساسية كبيرة، فالصورة الخيالية الصرفة تنقل الإحساس الفني إلى جو العبقرية
الخالقة، إذ هي تساهم بقوتها الأدبية في تحرير الحاسة الفنية من نير الطبيعة
المادية نسبيا وترتفع بها إلى الطبيعــة الروحية في جوهرها النقي البليغ. ونحن لا
ننكر أن المادية لها أثرها الملحوظ في تكييف الروحية وتوجيهها لكن هذا شيء
والارتفاع عن المحسوس الصرف شيء آخر. والصورة الخيالية الصرفة تشعر الروح الأدبي
بمعنى الحرية الأدبية في أكبر معانيها وتجعله أكثر امتلاء بتجارب العاطفة
والخيال.
- التجسيم أو التشخيص -
يميل
الأديب إلى التجسيم حينما يريد لمعانيه وخواطره أن تتقرر في الأذهان وتؤثر على
النفوس والأرواح بأسلوب قوى وكيفية حاسمة، إذ من طبيعة العقلية الإنسانية جزمها
بالمحسوسات أكثر من جزمها بالمعنويات والميل إلى أسلوب التجسيم تابع لشيء أخر هو
طبيعة العنصر الأدبي للأديب، إذ من المعلوم أن الأدباء لا يختلفون في شيء اختلافهم
في كيفية استجابتهم لدواعي الحياة الإنسانية، فمنهم الأديب الذي يرى الأشياء
المحسوسة ليست سوى رموز لعالم أكبر منها وهذا العالم هو المقصود عند النظرة الفنية،
هذا الأديب إذا صور لنا خواص الأشياء التي تتصل بحياته النفسية لم يبقها كما هي، بل
يخرج بها عن طبيعتها الرئيسية ليخلق منها عالما من العوالم البعيدة، ومنهم الأديب
الذي بطبعه تعجبه بساطة الظاهر ورونقه البارز للعيون والطبائع، فيستطيع أن يحس
بالأشياء إحساسه الأدبي فيجيش لها صدره بشتى التجارب والدوافع الشعورية، حتى إذا
عرضها علينا فأعطى لخواص الأشياء صفات أدبية عالية استطاع في الأخير أن يرينا تلك
الخواص كما هي وكما كونتها الطبيعة التي كونت كل شيء في هذا العالم. والآن قد قرب
من أذهاننا أن التجسيم يحتاج أولا إلى إرادة وثانيا إلى طبيعة نفسية تساعد عليه
وتهيء الجو الشعوري لعناصره، ولا يتبادر إلى الذهن أن الطبائع السطحية الضعيفة هي
التي تميل إلى التجسيم وتتطلبه، ذلك أن من وراء الصور المحسوسة في الأدب والفن شيئا
آخر له خطره وقيمته، ذلك الشيء هو المشاعر والعواطف.
والتجسيم يؤدي في الأدب
مهمة فنية تستهوي نفوس الأدباء والفنانين، فالتجسيم يجعل خواطر الأديب ومشاعره
مشاعة حتى بين ذوي الطبائع السطحية المادية، فيستطيعون أن يتملوها محسوسة فترتفع هي
بهم إلى جوها السامي. والتجسيم يمكن الأديب من أن يرى مشاعره في صورة محسوسة فتمتعه
في صورتها هاته غير ما تمتعه حينما كانت مجرد خواطر في الخيال الشعري. وإذا نظرنا
إلى ما يستفيده العمل الأدبي من التجسيم من الوجهة الفنية الصرفة رأينا أن العمل
الأدبي يكتسب بالتجسيم ميزة كبرى هي "ازدواج التكوين الفني" فنحن نجد فيه متعة
الروح الفني المحض كما نجد فيه متعة الحواس التي نتصل بواسطتها بظواهر الحياة. وهذا
الازدواج في التكوين الفني له درجة عالية إذا وجدت القلم البليغ جعلها فوق درجة
التخييل بمراحل.
أما أسباب قوة التصوير الفني وأسباب ضعفه فراجعة إلى طريقة
تناول الموضوع والسير فيه، فكل لفظة وكل عبارة وكل ملاحظة لها يد في تلك القوة وذلك
الضعف، فاللفظة إذا كانت غير متجانسة مع اللفظة التي تليها أم غير قادرة على إشعاع
الصورة التي وضعت من اجلها أو الظل الذي سيقت من أجله عطلت الحركة الفنية لطريقة
التصوير. والعبارة إذا كانت دخيلة على الأسلوب لا تتمشى مع طبيعته الفنية ولا تتصل
في روحها بروح التعبير العام جاءت خالية من القيم التي منها يتألف التصوير الفني،
فكانت بذلك عقدة في لسان الموسيقى الصوتية التي يعزفها الأسلوب الأدبي، والملاحظة
الشعورية إذا كانت خارجة عن مقتضيات التجارب الأدبية المتصلة بالجو الأدبي قضت على
جوهر التوحيد الفنى في المشاعر.
ويتعرض التصوير الفني للضعف كثيرا إذا كان
الأديب من أولئك الذين يرون اللغة إنها هي وسيلة وخادمة للمعاني والأغراض
الموضوعية، فيفرط في خصائص الأسلوب الموسيقية ويصرف كل عنايته إلى الفكر والشعور.
فلكي يحتفظ الأديب لتصويره الفني بعناصره سالمة قوية ينبغي أن لا يهمل النظر إلى
اللغة كغاية أدبية. والأديب الموفق هو ذلك الذي يمزج بين النظر إلى اللغة كغاية
وبين النظر إليها كوسيلة، فهو حينئذ يضمن لأدبه ثروة الفكر والشعور كما يضمن له
ثروة الأداء والأسلوب.
وفوق كل ذلك فإن التصوير الفني يعتمد على شيء آخر،
منه يستمد أهم مزاياه الذاتية، ذلك الشيء هو الطبيعة الفنية، فأحوال هذه الطبيعة
يؤثر اختلاف الأدباء فيها في ذلك التصوير، فهناك الطبيعة الفنية السطحية، وهناك
العميقة وهناك الضعيفة والقوية والواسعة والضيقة والحرة المقيدة. ولهذا نجد التصوير
في عمل أديب قد جمعت له مواد الصورة شعورية وأسلوبية ورتبت بطريقة فنية في منتهى
الجودة، بينما نجده في عمل أديب آخر تنقصه الحرارة والقوة والمادة الحية التي تعطيه
طابع البراعة والإتقان.
بقي لنا عنصر المزاج فمن الأمزجة ذلك المزاج السريع
التأثر القوي الحساسية الذي لا تفوته نبأة أو نسمة دون أن ينفعل لها ويجعلها أكبر
مما هي، ومن الأمزجة ذلك المزاج الفاتر الذي لا تؤثر فيه إلا الحوادث القاسية التي
تصحبها ضجات وفرقعات. ويلاحظ أن صاحب المزاج الاول أقدر من الثاني على إتقان
التصوير الفني. فهو بطبعه يجمع بين المتشابهات الكثيرة، ويحكم الجزئيات التي هي
عرضة للتلاشي في أثير الشعور وغضون الأسلوب، ليكون منها جانبا مهما في العمل
الأدبي. وهو قادر على استحضار أبعد الذكريات وأعمق الوساوس وهو مستعد لخلق الجو
الشعري الذي يريده، فيمكن للأديب صاحب هذا المزاج أن يصف المشهد الذي لم يره ويصور
الجو الشعري الذي هو غيره لا جوه هو. ومن ثم نجد بين أدباء العربية من يستطيع
البكاء على الأطلال ومشاركة الناقة ما تجده من ألم وتعب رغم كونه لم يسبق له أن بكى
فعلا على طلل أو كاشف ناقة من النياق. وذلك كأبي نواس الذي لم يترك الديباجة
العربية التقليدية رغم دعوته إلى التجديد في الشعر العربي. نقول إن هذا المزاج
متهيء لخلق الجو الشعري الذي يريده صاحبه، كما هو مساعد على نقل الإحساس من هذه
الناحية إلى تلك، وهذا كما قال الدكتور محمد مندر يسمى "نقل القيم". فأما المزاج
الفاتر فهو مصاب بالبلادة الشعورية، ولا تهزه إلا الضجات والفرقعات فإذا أراد صاحبه
أن يصور شيئا ما تصويرا فنيا كان غير مالك لمواد الصورة ولا قادر على جعل التصوير
الفني قطعة من الحياة تدب وتتنفس، فيجيء هذا التصوير تشبيهات متراكمة وعبارات
مرصوفة رصفا لا حرارة فيه ولا قوة.
الأدبية، له أصوله الفنية وطرائقه التي يسير عليها، فما كل من عبر تعبيرا أدبيا عن
معنى من المعاني العاطفية يكون صاحب تصوير فني، ولا كل من نمق كلاما جميلا يعد صاحب
تصوير فني. فقد يؤلف الأديب كلاما أدبيا أجمع للجمال الفني وأفعل في نفوس القراء،
وهو مع ذلك خلو من التصوير الفني. فهذا التصوير إذن ضرب خاص من الصناعة الأدبية له
طريقته الخاصة في نقل صور الحياة الظاهرة والباطنة وإخراجها في إطار أدبي جميل طلى.
فما هو إذن هذا التصوير؟.
نستطيع أن نقول أن التصوير الفني هو إعطاء العمل
الأدبي شكل "صورة" تظهر فيها خصائص التصوير وأركانه الفنية. غير أن هذا التعريف
غامض ينقصه الوضوح الذي يجعلنا أقرب إلى الحقيقة، فالأليق بنا إذن أن نقول: إن
التصوير الفني هو أن يؤلف الأديب بين الأشكال والمعاني تأليفا فنيا يكون منها
"صورة" صورة تشترك في رسمها كل كلمة وكل عبارة يتضمنها الأسلوب، وأنت تستطيع أن
تفهم أن إخراج العمل الأدبي في شكل صورة براعة أخرى لا يقدر عليها كل الأدباء، كما
تستطيع أن تفهم أن هذا الإخراج صناعة خاصة لا توجد في سائر الأساليب الأدبية. فليس
يكفي تكوين صورة من الأسلوب أن يكون هذا الأسلوب حافلا بالخصائص الفنية التي تتعلق
باللفظ والمعنى والعبارة، بل لا بد من طريقة خاصة للتأليف بين تلك الخصائص حتى
تستطيع أن تكون ما نسميه "صورة". فمن الأدباء من يؤدي مشاعره الطبيعية في أسلوب
أدبي لا توجد فيه خواص الأشياء إلا موصوفة وصفا "مرسلا" نعنى أنها وقف بها الأداء
في حدود الوصف المطلق ولم يدخل بها طور التأليف الصوري الذي يجمع بعضها إلى بعض
ليكون منها شكلا صوريا له خصائص الصورية. وهذا الأديب يستطيع أن يطلعنا على الأوصاف
الخيالية والواقعية والعقلية لخواص الأشياء، ولكن ليقف بنا عند هذا الحد، لا يتعداه
إلى إطلاعنا على خواص الأشياء بصفتها "صورة" أما الأديب الذي يطلعنا على تلك الخواص
في شكل صورة فهو ذلك الذي يستطيع أن يركبها تركيبا فنيا ثم يكسوها اللحم ويصب فيها
الدم وينفخ فيها روح الحياة. فمن وظيفة هذا الأديب أن يصف الأشياء وصفا لا يسير إلى
غايته الفنية سيرا، ولكن يدور حولها دورانا ويلف لفا لينشئ مشهدا صوريا جميلا من
مشاهد الحس والخيال.
وللتصوير الفني طرق ووسائل يختلف الأدباء وفرسان البيان
في اتباعها واستعمالها في الوصف الفني، وكل طريقة ووسيلة تعطي التصوير الفني طابعا
خاصا وتكيفه تكييفا مستقلا. فهناك طريقة التخييل وطريقة التجسيم أو التشخيص، فلنبحث
كل طريقة على حدة:
- التخييل -
التخييل
طريقة من طرق التصوير الفني، وهي تتلخص في تكوين صورة فنية تدرك بالخيال لا بالحس
وتمثل للعاطفة لا للعين. والتخييل مجال واسع لإبراز الخواطر العالية التي هي أسمى
من أن تظهر بمظاهر محسوسة، والأدبــاء الإبداعيون هم أكثر الأدباء ميلا إلى هذا
الضرب من التصوير الفني، ذلك أنه يمكنهم من خلق صورة جديدة تلائم أمزجتهم وطبائعهم
من غير أن تتقيـــد بظاهرة من الظواهر الواقعية المحدودة، ولذلك كان التخييل محتاجا
إلى ملكة خيالية بعيدة المدى والقرار، سيما وأن عمل التخييل هو الخلق دائمـــا، لأن
وظيفته تصعد به فوق المحسوس ليوجد صورا أخرى هي أكبر وأغنى ممــا نعرف في دنيانا
المشاهدة. ولطريقة التخييل التصويرية مزايا توجه العمــل الأدبي وجهة خاصة وتضع له
قيما أساسية كبيرة، فالصورة الخيالية الصرفة تنقل الإحساس الفني إلى جو العبقرية
الخالقة، إذ هي تساهم بقوتها الأدبية في تحرير الحاسة الفنية من نير الطبيعة
المادية نسبيا وترتفع بها إلى الطبيعــة الروحية في جوهرها النقي البليغ. ونحن لا
ننكر أن المادية لها أثرها الملحوظ في تكييف الروحية وتوجيهها لكن هذا شيء
والارتفاع عن المحسوس الصرف شيء آخر. والصورة الخيالية الصرفة تشعر الروح الأدبي
بمعنى الحرية الأدبية في أكبر معانيها وتجعله أكثر امتلاء بتجارب العاطفة
والخيال.
- التجسيم أو التشخيص -
يميل
الأديب إلى التجسيم حينما يريد لمعانيه وخواطره أن تتقرر في الأذهان وتؤثر على
النفوس والأرواح بأسلوب قوى وكيفية حاسمة، إذ من طبيعة العقلية الإنسانية جزمها
بالمحسوسات أكثر من جزمها بالمعنويات والميل إلى أسلوب التجسيم تابع لشيء أخر هو
طبيعة العنصر الأدبي للأديب، إذ من المعلوم أن الأدباء لا يختلفون في شيء اختلافهم
في كيفية استجابتهم لدواعي الحياة الإنسانية، فمنهم الأديب الذي يرى الأشياء
المحسوسة ليست سوى رموز لعالم أكبر منها وهذا العالم هو المقصود عند النظرة الفنية،
هذا الأديب إذا صور لنا خواص الأشياء التي تتصل بحياته النفسية لم يبقها كما هي، بل
يخرج بها عن طبيعتها الرئيسية ليخلق منها عالما من العوالم البعيدة، ومنهم الأديب
الذي بطبعه تعجبه بساطة الظاهر ورونقه البارز للعيون والطبائع، فيستطيع أن يحس
بالأشياء إحساسه الأدبي فيجيش لها صدره بشتى التجارب والدوافع الشعورية، حتى إذا
عرضها علينا فأعطى لخواص الأشياء صفات أدبية عالية استطاع في الأخير أن يرينا تلك
الخواص كما هي وكما كونتها الطبيعة التي كونت كل شيء في هذا العالم. والآن قد قرب
من أذهاننا أن التجسيم يحتاج أولا إلى إرادة وثانيا إلى طبيعة نفسية تساعد عليه
وتهيء الجو الشعوري لعناصره، ولا يتبادر إلى الذهن أن الطبائع السطحية الضعيفة هي
التي تميل إلى التجسيم وتتطلبه، ذلك أن من وراء الصور المحسوسة في الأدب والفن شيئا
آخر له خطره وقيمته، ذلك الشيء هو المشاعر والعواطف.
والتجسيم يؤدي في الأدب
مهمة فنية تستهوي نفوس الأدباء والفنانين، فالتجسيم يجعل خواطر الأديب ومشاعره
مشاعة حتى بين ذوي الطبائع السطحية المادية، فيستطيعون أن يتملوها محسوسة فترتفع هي
بهم إلى جوها السامي. والتجسيم يمكن الأديب من أن يرى مشاعره في صورة محسوسة فتمتعه
في صورتها هاته غير ما تمتعه حينما كانت مجرد خواطر في الخيال الشعري. وإذا نظرنا
إلى ما يستفيده العمل الأدبي من التجسيم من الوجهة الفنية الصرفة رأينا أن العمل
الأدبي يكتسب بالتجسيم ميزة كبرى هي "ازدواج التكوين الفني" فنحن نجد فيه متعة
الروح الفني المحض كما نجد فيه متعة الحواس التي نتصل بواسطتها بظواهر الحياة. وهذا
الازدواج في التكوين الفني له درجة عالية إذا وجدت القلم البليغ جعلها فوق درجة
التخييل بمراحل.
أما أسباب قوة التصوير الفني وأسباب ضعفه فراجعة إلى طريقة
تناول الموضوع والسير فيه، فكل لفظة وكل عبارة وكل ملاحظة لها يد في تلك القوة وذلك
الضعف، فاللفظة إذا كانت غير متجانسة مع اللفظة التي تليها أم غير قادرة على إشعاع
الصورة التي وضعت من اجلها أو الظل الذي سيقت من أجله عطلت الحركة الفنية لطريقة
التصوير. والعبارة إذا كانت دخيلة على الأسلوب لا تتمشى مع طبيعته الفنية ولا تتصل
في روحها بروح التعبير العام جاءت خالية من القيم التي منها يتألف التصوير الفني،
فكانت بذلك عقدة في لسان الموسيقى الصوتية التي يعزفها الأسلوب الأدبي، والملاحظة
الشعورية إذا كانت خارجة عن مقتضيات التجارب الأدبية المتصلة بالجو الأدبي قضت على
جوهر التوحيد الفنى في المشاعر.
ويتعرض التصوير الفني للضعف كثيرا إذا كان
الأديب من أولئك الذين يرون اللغة إنها هي وسيلة وخادمة للمعاني والأغراض
الموضوعية، فيفرط في خصائص الأسلوب الموسيقية ويصرف كل عنايته إلى الفكر والشعور.
فلكي يحتفظ الأديب لتصويره الفني بعناصره سالمة قوية ينبغي أن لا يهمل النظر إلى
اللغة كغاية أدبية. والأديب الموفق هو ذلك الذي يمزج بين النظر إلى اللغة كغاية
وبين النظر إليها كوسيلة، فهو حينئذ يضمن لأدبه ثروة الفكر والشعور كما يضمن له
ثروة الأداء والأسلوب.
وفوق كل ذلك فإن التصوير الفني يعتمد على شيء آخر،
منه يستمد أهم مزاياه الذاتية، ذلك الشيء هو الطبيعة الفنية، فأحوال هذه الطبيعة
يؤثر اختلاف الأدباء فيها في ذلك التصوير، فهناك الطبيعة الفنية السطحية، وهناك
العميقة وهناك الضعيفة والقوية والواسعة والضيقة والحرة المقيدة. ولهذا نجد التصوير
في عمل أديب قد جمعت له مواد الصورة شعورية وأسلوبية ورتبت بطريقة فنية في منتهى
الجودة، بينما نجده في عمل أديب آخر تنقصه الحرارة والقوة والمادة الحية التي تعطيه
طابع البراعة والإتقان.
بقي لنا عنصر المزاج فمن الأمزجة ذلك المزاج السريع
التأثر القوي الحساسية الذي لا تفوته نبأة أو نسمة دون أن ينفعل لها ويجعلها أكبر
مما هي، ومن الأمزجة ذلك المزاج الفاتر الذي لا تؤثر فيه إلا الحوادث القاسية التي
تصحبها ضجات وفرقعات. ويلاحظ أن صاحب المزاج الاول أقدر من الثاني على إتقان
التصوير الفني. فهو بطبعه يجمع بين المتشابهات الكثيرة، ويحكم الجزئيات التي هي
عرضة للتلاشي في أثير الشعور وغضون الأسلوب، ليكون منها جانبا مهما في العمل
الأدبي. وهو قادر على استحضار أبعد الذكريات وأعمق الوساوس وهو مستعد لخلق الجو
الشعري الذي يريده، فيمكن للأديب صاحب هذا المزاج أن يصف المشهد الذي لم يره ويصور
الجو الشعري الذي هو غيره لا جوه هو. ومن ثم نجد بين أدباء العربية من يستطيع
البكاء على الأطلال ومشاركة الناقة ما تجده من ألم وتعب رغم كونه لم يسبق له أن بكى
فعلا على طلل أو كاشف ناقة من النياق. وذلك كأبي نواس الذي لم يترك الديباجة
العربية التقليدية رغم دعوته إلى التجديد في الشعر العربي. نقول إن هذا المزاج
متهيء لخلق الجو الشعري الذي يريده صاحبه، كما هو مساعد على نقل الإحساس من هذه
الناحية إلى تلك، وهذا كما قال الدكتور محمد مندر يسمى "نقل القيم". فأما المزاج
الفاتر فهو مصاب بالبلادة الشعورية، ولا تهزه إلا الضجات والفرقعات فإذا أراد صاحبه
أن يصور شيئا ما تصويرا فنيا كان غير مالك لمواد الصورة ولا قادر على جعل التصوير
الفني قطعة من الحياة تدب وتتنفس، فيجيء هذا التصوير تشبيهات متراكمة وعبارات
مرصوفة رصفا لا حرارة فيه ولا قوة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أبدعت صنعاً